فصل: من فوائد ابن كثير في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



حكاه الرُّماني في كتابه؛ وحكى عن الشافعي أنهم يُخرجون من بلد إلى بلد، ويُطلَبون لتقام عليهم الحدود؛ وقاله الليث بن سعد والزهريّ أيضًا.
وقال مالك أيضًا: يُنفى من البلد الذي أحدث فيه هذا إلى غيره ويُحبس فيه كالزاني.
وقال مالك أيضًا والكوفيون: نفيهم سجنهم فينفى من سَعَة الدنيا إلى ضيقها، فصار كأنه إذا سُجِن فقد نُفِي من الأرض إلا من موضع استقراره؛ واحتجوا بقول بعض أهل السُّجُون في ذلك:
فخرجنا من الدنيا ونحن مِنَ أهْلها ** فلسنا من الأمواتِ فيها ولا الأَحْيَا

فإذا جاءنا السَّجَّانُ يومًا لحاجةٍ ** عَجِبنا وقلنا جاء هذا من الدنيَا

حَكى مَكْحول أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أوّل من حَبَس في السجون وقال: أحبسه حتى أعلم منه التوبة، ولا أنفيه من بلد إلى بلد فيؤذيهم؛ والظاهر أن الأرض في الآية هي أرض النَّازِلة وقد تَجنَّب الناس قديمًا الأرض التي أصابوا فيها الذنوب؛ ومنه الحديث: «الذي نَاءَ بصَدْره نحو الأرض المقدّسة» وينبغي للإمام إن كان هذا المحارب مَخُوف الجانب يظن أنه يعود إلى حرابة أو إفساد أن يسجنه في البلد الذي يُغَرب إليه، وإن كان غير مَخُوف الجانب فظن أنه لا يعود إلى جناية سُرّح؛ قال ابن عطية: وهذا صريح مذهب مالك أن يُغَرّب ويُسجن حيث يُغرب، وهذا على الأغلب في أنه مخوف، ورجحه الطَّبَريّ وهو الواضح؛ لأن نفيه من أرض النازِلة هو نصّ الآية، وسجنه بعد بحسب الخوف منه، فإن تاب وفهِمت حاله سُرّح.
الخامسة قوله تعالى: {أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأرض} النفي أصله الإهلاك؛ ومنه الإثبات والنفي، فالنفي الإهلاك بالإعدام؛ ومنه النّفاية لرديِّ المتاع؛ ومنه النَّفِيُّ لما تطاير من الماء عن الدّلوْ.
قال الراجز:
كَأَنَّ مَتْنَيْهِ مِن النَّفِيّ ** مَوَاقِعُ الطَّيْرِ على الصُّفِيَّ

السادسة قال ابن خُوَيْزِمَنْدَاد: ولا يُراعَى المال الذي يأخذه المحارب نِصَابًا كما يُراعى في السارق.
وقد قيل: يُراعَى في ذلك النصاب ربع دينار؛ قال ابن العربي قال الشافعي وأصحاب الرأي: لا يقطع من قطاع الطريق إلا من أخَذ قدر ما تقطع فيه يد السارق؛ وقال مالك: يحكم عليه بحكم المحارب وهو الصحيح.
فإن الله تعالى وَقَّتَ على لسان نبيه عليه الصلاة والسلام القطع في السرقة في ربع دينار، ولم يُوقِّت في الحرابة شيئًا بل ذكر جزاء المحارب، فاقتضى ذلك توفية الجزاء لهم على المحاربة عن حبة؛ ثم إن هذا قياس أصل على أصل وهو مختلف فيه، وقياس الأعلى بالأدنى والأدنى بالأسفل وذلك عكس القياس.
وكيف يصح أن يقاس المحارب على السارق وهو يطلب خطف المال فإن شُعِر به فَرّ؛ حتى إن السارق إذا دخل بالسلاح يطلب المال فإن مُنع منه أو صِيح عليه وحارب عليه فهو محارب يُحكم عليه بحكم المحارب.
قال القاضي ابن العربي: كنت في أيام حكمي بين الناس إذا جاءني أحد بسارق، وقد دخل الدار بسكين يَحْبسه على قلب صاحب الدار وهو نائم، وأصحابه يأخذون مال الرجل، حكمت فيهم بحكم المحاربين، فافهموا هذا من أصل الدين، وارتفعوا إلى يَفَاع العلم عن حَضِيض الجاهلين.
قلت: اليَفَع أعلى الجبل ومنه غلام يَفَعَةٌ إذا ارتفع إلى البلوغ؛ والحضيض الحفرة في أسفل الوادي؛ كذا قال أهل اللغة.
السابعة ولا خلاف في أن الحرابة يُقتل فيها من قَتل وإن لم يكن المقتول مكافئًا للقاتل؛ وللشافعي قولان: أحدهما أنها تعتبر المكافأة لأنه قَتل فاعتبر فيه المكافأة كالقصاص؛ وهذا ضعيف؛ لأن القتل هنا ليس على مجرد القتل وإنما هو على الفساد العام من التخويف وسلب المال؛ قال الله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الذين يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأرض فَسَادًا أَن يقتلوا} فأمر تعالى بإقامة الحدود على المحارب إذا جمع شيئين محاربة وسعيًا في الأرض بالفساد، ولم يخص شريفًا من وضيع، ولا رفيعًا من دنيء.
الثامنة وإذا خرج المحاربون فاقتتلوا مع القافلة فقُتِل بعض المحاربين ولم يُقتل بعض قُتل الجميع.
وقال الشافعي: لا يُقتل إلا من قَتل؛ وهذا أيضًا ضعيف؛ فإن من حضر الوقيعة شركاء في الغنيمة وإن لم يَقتل جميعهم؛ وقد اتفق معنا على قتل الرَّدْء وهو الطليعة فالمحارب أولى.
التاسعة وإذا أخاف المحاربون السّبيلَ وقَطَعوا الطريق وجب على الإمام قتالهم من غير أن يدعوهم، ووجب على المسلمين التعاون على قتالهم وكَفّهم عن أذى المسلمين، فإن انهزموا لم يتبع منهم مدبِرًا إلاّ أن يكون قد قتل وأَخَذ مالًا، فإن كان كذلك أتبع ليؤخذ ويقام عليه ما وجب لجنايته؛ ولا يُدَفَّف منهم على جريح إلا أن يكون قد قتلَ؛ فإن أخذوا ووُجد في أيديهم مال لأحد بعينه رُدّ إليه أو إلى ورثته، وإن لم يوجد له صاحب جُعل في بيت المال؛ وما أتلفوه من مال لأحد غرموه؛ ولا دية لمن قتلوا إذا قِدر عليهم قبل التوبة، فإن تابوا وجاءوا تائبين وهي:
العاشرة لم يكن للإمام عليهم سبيل، وسقط عنهم ما كان حدًّا لله وأخذوا بحقوق الآدميين، فاقتص منهم من النفس والجراح، وكان عليهم ما أتلفوه من مال ودم لأوليائه في ذلك، ويجوز لهم العفو والهبة كسائر الجناة من غير المحاربين؛ هذا مذهب مالك والشافعيّ وأبي ثور وأصحاب الرأي.
وإنما أُخذ ما بأيديهم من الأموال وضَمنوا قيمة ما استهلكوا؛ لأن ذلك غَصب فلا يجوز مِلكه لهم، ويُصرف إلى أربابه أو يوقفه الإمام عنده حتى يعلم صاحبه.
وقال قوم من الصحابة والتابعين: لا يُطلب من المال إلا بما وُجد عنده، وأما ما استهلكه فلا يُطلَب به؛ وذكر الطَّبَريّ ذلك عن مالك من رواية الوليد بن مسلم عنه، وهو الظاهر من فعل عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه بحارثة بن بدر الغُدَانيّ فإنه كان محاربًا ثم تاب قبل القدرة عليه، فكتب له بسقوط الأموال والدّم عنه كتابًا منشورًا؛ قال ابن خُوَيْزِمَنْدَاد: واختلفت الرواية عن مالك في المحارب إذا أُقيم عليه الحدّ ولم يوجد له مال؛ هل يُتبعَ دَيْنًا بما أخذ، أو يُسقط عنه كما يُسقط عن السارق؟ والمسلم والذمي في ذلك سواء.
الحادية عشرة وأجمع أهل العلم على أن السلطان وليّ من حارب؛ فإن قَتل محارب أخا امرىء أو أباه في حال المحاربة، فليس إلى طالب الدّم من أمر المحارب شيء، ولا يجوز عفو وليّ الدّم، والقائم بذلك الإمام؛ جعلوا ذلك بمنزلة حدّ من حدود الله تعالى.
قلت: فهذه جملة من أحكام المحاربين جمعنا غررها، واجتلبنا دررها، ومن أغرب ما قيل في تفسيرها وهي:
الثانية عشرة تفسير مجاهد لها؛ قال مجاهد: المراد بالمحاربة في هذه الآية الزنى والسرقة؛ وليس بصحيح؛ فإن الله سبحانه بيّن في كتابه وعلى لسان نبيه أن السارق تُقطَع يده، وأن الزاني يُجلَد ويغرّب إن كان بكرا، ويُرجم إن كان ثَيِّبا مُحْصنا.
وأحكام المحارب في هذه الآية مخالف لذلك، اللهم إلا أن يريد إخافة الطريق بإظهار السلاح قصدًا للغَلَبة على الفروج، فهذا أفحش المحاربة، وأقبح من أخذ الأموال وقد دخل هذا في معنى قوله تعالى: {وَيَسْعَوْنَ فِي الأرض فَسَادًا}.
الثالثة عشرة قال علماؤنا: ويُناشَد اللص بالله تعالى، فإن كَفّ تُرِك وإن أَبَى قوتل، فإن أنت قتلته فشرّ قتيل ودمه هَدَر.
روى النسائيّ عن أبي هُرَيرة أن رجلًا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أرأيت إن عُدِي على مالي؟ قال: «فانشد بالله» قال: فإن أَبَوْا عليّ.
قال: «فانشد بالله» قال: فإن أَبَوْا عليّ قال: «فانشد بالله» قال: فإن أَبَوْا عليّ قال: «فقاتل فإن قُتلت ففي الجنة وإن قَتلتَ ففي النار» وأخرجه البخاريّ ومسلم وليس فيه ذكر المناشدة عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟ قال: «فلا تُعطِه مالك» قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: «فقاتله» قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: «فأنت شهيد» قال: فإن قتلته؟ قال: «هو في النار» قال ابن المنذر: وروينا عن جماعة من أهل العلم أنهم رأُوا قتال اللصوص ودفعهم عن أنفسهم وأموالهم؛ هذا مذهب ابن عمر والحسن البصريّ وإبراهيم النّخَعيّ وقَتادة ومالك والشافعيّ وأحمد وإسحاق والنعمان، وبهذا يقول عوام أهل العلم؛ إن للرجل أن يقاتل عن نفسه وأهله وماله إذا أُريد ظلمًا؛ للأخبار التي جاءت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يخصّ وقتًا دون وقت، ولا حالًا دون حال إلا السلطان؛ فإن جماعة أهل الحديث كالمجتمعين على أن من لم يمكنه أن يمنع عن نفسه وماله إلا بالخروج على السلطان ومحاربته أنه لا يحاربه ولا يخرج عليه؛ للأخبار الدالة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، التي فيها الأمر بالصبر على ما يكون منهم، من الجور والظلم، وترك قتالهم والخروج عليهم ما أقاموا الصلاة.
قلت: وقد اختلف مذهبنا إذا طُلِب الشيء الخفيف كالثوب والطعام هل يُعطَونه أو يُقاتَلون؟ وهذا الخلاف مبني على أصل، وهو هل الأمر بقتالهم لأنه تغيير منكر أو هو من باب دفع الضرر؟ وعلى هذا أيضًا ينبني الخلاف في دعوتهم قبل القتال.
والله أعلم.
الرابعة عشرة قوله تعالى: {ذلك لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدنيا} لشناعة المحاربة وعظم ضررها، وإنما كانت المحاربة عظيمة الضرر؛ لأن فيها سدّ سبيل الكسب على الناس؛ لأن أكثر المكاسب وأعظمها التجارات، وركنها وعمادها الضرب في الأرض؛ كما قال عز وجل: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأرض يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ الله} [المزمل: 20] فإذا أخيف الطريق انقطع الناس عن السفر، واحتاجوا إلى لزوم البيوت، فانسدّ باب التجارة عليهم، وانقطعت أكسابهم؛ فشرع الله على قطاع الطريق الحدود المغلّظة، وذلك الخِزي في الدنيا ردعًا لهم عن سوء فعلهم، وفتحا لباب التجارة التي أباحها لعباده لمن أرادها منهم، ووعد فيها بالعذاب العظيم في الآخرة.
وتكون هذه المعصية خارجة عن المعاصي، ومستثناة من حديث عُبادة في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «فمن أصاب من ذلك شيئًا فعوقِب به في الدّنيا فهو له كفارة» والله أعلم.
ويحتمل أن يكون الخِزي لمن عوقب.
وعذاب الآخرة لمن سلم في الدُّنيا، ويجري هذا الذنب مجرى غيره.
ولا خلود لمؤمن في النار على ما تقدّم، ولكن يعظم عقابه لعظم الذنب، ثم يخرج إما بالشفاعة وإما بالقبضة، ثم إن هذا الوعيد مشروط الإنفاذ بالمشيئة كقوله تعالى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} [النساء: 48] أما إن الخوف يغلب عليهم بحسب الوعيد وكبر المعصية. اهـ.

.من فوائد ابن كثير في الآية:

قال رحمه الله:
وقوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأرْضِ} الآية. المحاربة: هي المضادة والمخالفة، وهي صادقة على الكفر، وعلى قطع الطريق وإخافة السبيل، وكذا الإفساد في الأرض يطلق على أنواع من الشر، حتى قال كثير من السلف، منهم سعيد بن المسيب: إن قرض الدراهم والدنانير من الإفساد في الأرض، وقد قال الله تعالى: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة: 205].
ثم قال بعضهم: نزلت هذه الآية الكريمة في المشركين، كما قال ابن جرير:
حدثنا ابن حُمَيْد، حدثنا يحيى بن واضح، حدثنا الحسين بن واقد، عن يزيد، عن عِكْرِمَة والحسن البصري قالا قال تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} إلى {أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} نزلت هذه الآية في المشركين، فمن تاب منهم من قبل أن تقدروا عليه، لم يكن عليه سبيل، وليست تحرز هذه الآية الرجل المسلم من الحد، إن قتل أو أفسد في الأرض أو حارب الله ورسوله، ثم لحق بالكفار قبل أن يقدر عليه، لم يمنعه ذلك أن يقام عليه الحد الذي أصاب.
ورواه أبو داود والنسائي، من طريق عكرمة، عن ابن عباس: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأرْضِ فَسَادًا} نزلت في المشركين، فمن تاب منهم قبل أن يقدر عليه لم يمنعه ذلك أن يقام فيه الحد الذي أصابه.